كلام كثير نسمعه منذ أشهر عن أسباب الأزمة وخلفياتها، يفتقر غالباً إلى الدقّة والأمانة، ويدخل في سياق التضليل لإخفاء الحقيقة، والتهرّب من المسؤوليّة، أو حتّى في سياق الترويج. هل سمع أحد قبل اليوم بإعلان ترويجي عن مؤسسة تقفل؟ هل يمكن أن نخفف من الرثاء والضجيج والفولكلور، ونواجه الحقائق الجارحة؟ في الحقيقة لسنا أمام موت الصحافة، بل أمام موت نمط من أنماط انتاجها، في التحرير والادارة والتمويل. في هذا السياق، فإن مبادرة وزير الاعلام ملحم رياشي لإخراج الاعلام اللبناني من النفق، يجب أن ترتكز على العقلانية والشفافية، وعلى حماية حقوق العاملين في هذا القطاع، وضمان حريتهم وكرامتهم
ثمة ما يفوق القدرة على التحمّل. شيء يبعث على الأسى. ليس على الميت وأهله فحسب، بل على جمهور لا يراد له أن يرى نهاية لمراسم الدفن.
ثمة صمت تفرضه لياقات وعواطف وحفظ لأيام خوال، حتى لحظة الموت المعلن تفرض هذا الصمت أيضاً. لكنه صمت يكاد ينفجر بأصحابه، عندما لا يريد المعلن عن موته أن يقفل دار العزاء.
في حالة «السفير»، نجد أنفسنا أمام تجربة فريدة من نوعها في الترويج. هل سبق أن رأى أحد إعلاناً ترويجياً لمؤسسة تقفل؟ أم هي حيلة الصحافي الذي يكتب عنواناً من نوع: الرجل عضّ الكلب؟!
ثمة ما يجب قوله بصراحة أيضاً، وهو أن أزمة «السفير» لا تتصل بمشكلة مالية. ربما يكون هناك جانب مادي، لكن المشكلة الأساسية تكمن في عجز «السفير» عن مواكبة تحديات المهنة الجديدة، ورفضها كل مشاريع التغيير التي عرضت عليها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. وهناك أيضاً وجه ثالث وأساسي للأزمة، يتعلق بالورثة والعائلة وأشياء أخرى!
ربما لا يعرف الجمهور أن هناك محاولات جديّة بُذلت من قبل شخصيات وجهات لمنع إقفال «السفير»، ووصل الأمر بأحدهم إلى تقديم عرض يشمل تمويل صدورها من دون إلزام أصحابها أو إدارتها بأي قرش. لكن العرض رُفض.
ثم رُفضت عروض أخرى باستخدام اسم «السفير» ومعاودة الصدور بحلة جديدة، ما دفع عدداً من الزملاء العاملين فيها، مع أصدقاء للجريدة، يتقدمهم الزميل مصطفى ناصر، إلى بدء العمل على إصدار جريدة يومية، ترث «السفير»، وربما تطمح إلى ما هو أكثر. وهو مشروع مستحب، لا بل وجب دعمه، من كل من يقدر على دعمه، بما في ذلك الأفراد أو الجهات التي كانت تدعم «السفير»… مع حاجة أخيرة للفت الانتباه، إلى أن أصحاب «السفير» لم يقرروا الخروج نهائياً من هذا العالم، لكنهم قرروا التموضع بطريقة مختلفة. وهم في صدد الإعداد لمشاريع تشترط مجموعة خطوات، من بينها إقفال الجريدة الحاليّة.
المشكلة ليست في تعرض صحيفة مثل «السفير» لأزمة كبيرة، كما هي حال «النهار»، بل في أن يتحول الأمر إلى خطر داهم على الصحافة برمّتها… وأن يراد للجمهور في لبنان، وللمهتمين بالصحافة، أن يتصرفوا على أساس أن موت «السفير» واحتضار «النهار» يعنيان موت الصحافة عموماً. إنّه في الحقيقة موت لنوع من الصحافة فقد قدرته على مواكبة التحديات المهنية الجديدة، ولم يعد قادراً على صياغة خط تحريري واضح وحاسم. كيف يمكن أن نتصوّر أنّ من الممكن الاستمرار في إقناع الرأي العام بجريدة تقف إلى جانب أرباب العمل كما إلى جانب العمال، وإلى جانب الحاكم السياسي كما الى جانب معارضيه، والى جانب الأنظمة والثائرين ضدها...؟ وكيف ينبغي أن ننظر إلى صحيفة، تتولى مصارف لبنان نعيها والتحسّر على غيابها!؟
قد يعتقد كثيرون أن ما يعرف بالأزمة المالية للصحف قابلة للحل عبر تمويل سياسي. كل من يتبنّى هذا الرأي هو، حكماً، من أصحاب المدرسة المندثرة، لأنّه لم يدرك أن المال السياسي نفسه يحتاج إلى وسائل إعلام تملك تأثيراً على الرأي العام. فكيف يستقيم الأمر مع صحف يضيق حجم انتشارها ليقتصر على طبقة سياسية تقرر عناوين الصفحات والمقالات، وعلى طبقة اقتصادية ومالية وصناعية ومهنية تقرر جدول مواد المتابعة والتحقيقات، وعلى مرجعيات روحية ودينية وطائفية تملك حق الفيتو على ما ينشر وما لا ينشر؟ علماً بأن أزمة هذا النوع من الصحافة لا تتصل أبداً بالثورة الرقمية. تكفي مراجعة إحصائيات المواقع الإلكترونية التابعة لهذه الصحف، كي نعرف أن مشكلتها تكمن في أزمة المحتوى والمقاربة، قبل أي شيء آخر. أما في حال قررت «النهار» التفاخر بارتفاع نسبة الإقبال على موقعها، فليس عيباً الاعتراف بأن هؤلاء الزوار الإضافيين لا يقصدون الجريدة كما نعرفها، ولا أبوابها التقليدية، بل يقصدون مواد الفضائح الجنسية، وهي مواد ليست معدّة في مكاتب تحرير «النهار»، بل يجري نسخها نقلاً عن مواقع عربية أو عالمية!
تحديات وواجبات
في عالم المهنة، هناك من يرفض التصرف مع قطاع الصحافة على أنه صناعة في حدّ ذاتها. وهو صناعة لها خصوصية. لكنها خصوصية تتعلق بالمحتوى من جهة، وبمنتجي هذا المحتوى من جهة ثانية. وعدم تحول أصحاب هذه الصناعة إلى التفكير في الأمر بطريقة علمية، يمنع حماية هذه الصناعة ويحول دون التجديد فيها. وهذا هو التحدي المركزي أمام الصحافة اليوم، ويترافق مع التحديات المهنية المباشرة المتعلقة بالجديد في هذا العالم، والتنوع الهائل في الوسائل التي بات بمقدور الجمهور استخدامها للحصول على هذا المحتوى. وفي الحالتين، نواجه، هنا، أصحاب عمل أقرب إلى الرأسمالية المتخلفة التي تنظر إلى المنتجين فيها وكأنهم ماكينات طباعة. هذه الرأسمالية التي لا تعرف طريقاً عرفته رأسمالية دول شمالي أوروبا، عندما تحول العاملون في المؤسسات إلى شركاء فعليين، لأنه لا مجال لأي إنتاج من دونهم. وفي حالة الصحافة، لا تنفع التكنولوجيا ولا أدوات التواصل الجديدة في تأمين المحتوى الذي هو أصل هذا الانتاج. وكل القوالب أو الأطر المزينة لا تنفع في ترويج بضاعة تافهة أو فاسدة.
الأمر الآخر يتعلق بدور الناس. والناس، هنا، فئة موجودة في المنازل والشوارع، تتعامل مع الصحافة كمنتج، وفئة ممثلة بالدولة التي يفترض أن تعي أن بلاداً حرة، فيها اقتصاد حرّ، وحياة سياسية حرة، هي بلاد تحتاج حكماً إلى صحافة حرّة. وفي هذا الجانب، تكمن مسؤولية الدولة، ليس في مساعدة أصحاب المؤسسات على استمرارية مؤسساتهم بالطريقة التقليدية، بل في المساعدة المشروطة بتوفير كل الحماية للعنصر البشري المنتج لهذه الصحف، أي توفير الحماية والرعاية للصحافيين والفنيين والإداريين الذين من دونهم لا وجود لصحافة ولا من يحزنون.
في هذا السياق، بادر وزير الاعلام الجديد الرفيق ملحم رياشي الى تفعيل نقاش ظل خافتاً مع سلفه الوزير رمزي جريج. وهو نقاش يستهدف تقديم مقترحات الى الحكومة والمجلس النيابي لتوفير دعم يساعد الصحافة على العيش والبقاء. لكن هذا النقاش يخشى أن يظل أسير مفاهيم قديمة للإنتاج الاعلامي والصحافي. وما يجب أن تكون الخشية منه أكبر، هو أن يتركز النقاش على كيفية حماية الشركات من خلال تخصيص إدارات المؤسسات الصحافية وأصحابها بالدعم، وتجاهل البند الرئيسي المتعلق بتوفير كل أنواع الحوافز التي تبقي العاملين أحراراً، لا عرضة لمزاجية أو نزق أو تعسف. وهذا، للأسف، ما هو حاصل الآن، إذ يتم تحويل الموظفين إلى عمال سخرة. ويتم استغلال سنوات الخدمة الطويلة، وكل الجهود والنبل والتفاني التي بذلها هؤلاء الموظفون، ثم يجري شطبهم، بتعويضات مذلّة، لا تساوي لحظة أمضوها في الصقيع، أو عند خطوط التماس، أو في معاينة لمكان قصف، أو تحمّل اضطهاد الخصوم السياسيين والميليشيات المارقة، كما هي الحال في «السفير»، أو ما هو أنكى في «النهار»، حيث ابتدع المستشار القانوني لإدارة الصحيفة اللجوء الى أسلوب «التطفيش»، ودفع العاملين إلى التخلي طوعاً عن حقوقهم، مقابل أن يأخذوا بعض هذه الحقوق المحفوظة في حسابات من بأيديهم الأمر.
ماذا يمكن أن نفعل؟
قبل أي شيء، يجب أن تبادر الحكومة الى حل الإطار النقابي القائم اليوم، والممثل بنقابتي الصحافة والمحررين، إذ ليس هناك من ضرورة لإطار نقابي خاص بأصحاب وسائل الاعلام ما دامت مسجلة في الدولة كشركات.
مكان أصحاب الصحف هو غرف التجارة والصناعة، على أن يصار الى إنشاء نقابة للعاملين في الصحف، تخصّ الاعلاميين والفنيين والاداريين، وأن يترك لهؤلاء اختيار قيادة نقابية تتابع أمورهم وحاجاتهم، لدى المؤسسات نفسها ولدى الدولة أيضاً.
أول مبلغ تفكر الدولة في صرفه لمساعدة الصحف يجب أن يكون عبر تمويل صندوق يوفر التأمين الصحي والطبي الشامل لكل عامل في هذه المهنة، وأن يظل مستفيداً من هذا الصندوق لمدى الحياة، من أخرج من عمله عنوة نتيجة تعسف صاحب المؤسسة، أو في حال تم خروجه لأسباب قهرية. وهناك أساس لهذه الصندوق، يتمثل في مليار ليرة لبنانية تمنحها الدولة لنقابتي الصحافة والمحررين، من دون معرفة السبب الموجب لذلك. وعلى الدولة إقرار قانون يتيح للعاملين في المؤسسات الاعلامية الحصول على أفضلية ودعم، للحصول على قروض لتعليم أولادهم، أو شراء منازل. وفي حال حصل ذلك، فإن العامل في مهنتنا سيشعر بحصانة تجعله أكثر حرية. ومن يخسر حريته لا مكان له في هذه المهنة.
كذلك، على الحكومة التقدم باقتراحات لتعديل قانون العقوبات الخاص بالمطبوعات، وتوسيع هامش الحريات التي تحتاج إليها المهنة اليوم، كما يحتاج إليها الرأي العام، خصوصاً أننا نعيش في بلاد يحكم غالبية المؤسسات فيها فاسدون، لا قدرة لقضاء ولا لأجهزة رقابة على محاسبتهم. وهؤلاء يريدون إكمال الطوق، من خلال قوانين عقوبات تمنع الرأي العام والصحافة من التشهير بهم. وهو تشهير يمكن لقانونيين إيجاد الفتاوى التي تحول دون تحوله الى أداة استنسابية بيد الصحافة أيضاً، خصوصاً أن بيننا من يحب لعبة الابتزاز من خلال الوسيلة الاعلامية التي يملكها، أو يمون على إدارة التحرير فيها!
وربما يكون من الأفضل للحكومة أن تساعد العاملين في الوسائل الاعلامية على توقيع عقد عمل جماعي، تقرّه نقابتهم الجديدة مع جميع أصحاب الوسائل الاعلامية، بما يحدّ من تعسف الإدارات وأصحاب الأموال المجباة أصلاً باسم الصحافة والحرية.
أما الدعم المفترض تقديمه إلى المؤسسات، ويمكن توفيره من خلال إعفاءات من بعض الرسوم أو الضرائب، أو حتى دعم أسعار الورق أو توفير قاعدة مشتركين أكبر، فإن ذلك يجب أن يكون مرهوناً بحق الدولة في مراقبة الأداء المالي لهذه المؤسسات. ويجب على كل وسيلة إعلامية تتلقى الدعم من الدولة، وتحصل بالتالي على مال عام، أن تخضع للقوانين التي تتيح لهيئات رقابة في الدولة، مثل ديوان المحاسبة، أن تكشف عن موازناتها، وعن أرقام مبيعاتها، وعن حصصها الإعلانية، وعن كل ما يردها من أموال. وهي معنية في هذا الإطار بجعل أي دعم تتلقاه، لأسباب شخصية أو سياسية أو ثقافية، خاضعاً بدوره للقوانين المرعية.
الصحافة تواجه اليوم تحديات كبرى، مهنية وإدارية، لكن الأهم يبقى التحديات الاخلاقية.